ابن الحديده
| موضوع: المعمار عندما يتحول إلى أداة سياسية استعمارية الثلاثاء مايو 05, 2009 10:17 am | |
| ثمة علاقة وطيدة بين المعمار وسلطة الحكم. وهي علاقة تاريخية قديمة متجددة تنبعث بالعديد من الصور والأشكال, وهي علاقة براغماتية مصلحية تعمل باتجاهين. فالعمارة كفن تطبيقي وكمنحى رئيس من مناحي الحضارة والثقافة كانت من الفنون التي لازمت بلاط النفوذ وصناعة القرار بالدولة. وبالرغم من أطروحات "العمارة البيئية" و"العمارة الفطرية دون معماريين" و"عمارة الفقراء" المثالية التي تنادي بأن العمارة ينبغي أن توظف لخدمة كافة فئات المجتمع وبوسائل متوفرة في البيئة وليست دخيلة عليها, إلا إن مثل هذه الأطروحات والمساجلات الفكرية النظرية منها تؤكد وبشكل غير مباشر حقيقة أن العمارة كانت تاريخيا وما تزال "نخبوية" تخدم فئات معينة بالمجتمع وتلتصق بالطبقة المتنفذة والبورجوازية وصناعة القرار. فالتاريخ يدل على أن غالبية مبدعي العمارة وحتى وقتنا الحاضر كان لهم حضور قوي وعلاقة مصلحية "ببلاط" الملوك والسلاطين والأمراء وكبار التجار والأثرياء. وما نراه اليوم من مآثر عمرانية في مختلف الحضارت والثقافات إنما هي نتائج "تلاقح" تزلف المعمار واستنفاعه على باب السلاطين والأمراء ونظرة سياسية لطبقة الحكم في توظيف العمارة, والتي كان ينبغي أن تكون فنا انسانيا مجردا يعكس قيم المجتمعات, لتصبح بدلا من ذلك وسيلة سياسية تكرس ايديولوجية "قهر" داخلية في استبداد الحكم أو خارجية في الإستعمار. والأمثلة على ذلك تكاد لا تعد ولا تحصى, سواء تاريخيا أم في الوقت القريب والمعاصر. فمعمار الدولة العثمانية "سنان" كان مقربا من بلاط أربعة سلاطين لا سلطان واحد, إذ كان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلاطين الأربعة: سليم الأول وسليمان الأول وسليم الثاني ومراد الثالث. وبدائع العمارة العربية الإسلامية إنما هي عمائر تخص قصور الملوك والأمراء والسلاطين وكبار التجار والأثرياء, كقصر الحمراء بالأندلس وقصير عمرة وقصور الأمويين والعباسيين, أو كبيت الكريدلية وبيت جمال الدين الذهبي والسحيمي في القاهرة المملوكية وهم من كبار التجار والأثرياء آنذاك. ويكاد يخلو التاريخ من معمار كرس مهنته لخدمة العامة من الناس - ويكاد ذلك أن يشمل حسن فتحي صاحب أطروحة "العمارة للفقراء". فحسن فتحي يكتب عن معاناته مع دوائر الحكم وعقيلات أصحاب القرار في مصر في الأربعينيات في قبول أفكاره الحالمة, لتجده في أواخر حياته المهنية يصمم لكبار الأثرياء في دول الخليج العربي والكويت. وتتعدد الاسماء بشكل لا يحصى في معماريي العالم العربي المعاصر, بما لا يتيح لنا المقام تسميتهم, ممن لهم حضور دائم على أبواب السلاطين والملوك والأمراء. وهذه العلاقة إنما هي علاقة نفعية مصلحية مادية محضة وإن تعددت الأطروحات الفكرية وتدثرت بأقنعة الفكر والثقافة والتراث والحداثة وغيرها من نبيل القيم والأفكار وساميها. وفي مقابل هذا السعي "الإرتزاقي" من قبل المعمار, كانت هناك نظرة سياسية من قبل الحاكم ودوائر المشورة في بلاطه بنفعية استخدام المعمار في توظيفه كوسيلة تخدم أهدافا سياسية وعلى مستويات متعددة. فهناك مستوى في تكريس هيمنة الدولة على الفرد بتقديم مفهوم "مبتدع" في العمارة المسجدية "الصنمية" الضخمة والمضخمة التي تشعر الفرد بالضآلة في مقابل سطوة الحكم, وهو مفهوم قديم تاريخيا عكسته معابد الفراعنة التي كرست "عمدا" سطوة رجال الدين والكهنة الذين كانت لهم حظوة وسطوة سياسية كطبقة مسيطرة وحاكمة. فكان مقياس الأنسان "المصغر" في هذه المعابد "الضخمة" يكافئ الواحد للمائة ويزيد. وهناك نوع آخر من التوظيف السياسي يكمن في "قمع" الفكر المضاد للدولة من خلال المعمار بشكل مباشر أو غير مباشر. والقمع المباشر عكسه نابليون أثناء الثورة الفرنسية بتوظيفه للمعمار "هاوسمان" لإعادة تخطيط مدينة باريس وبحيث تكون الشوارع عريضة ومستقيمة. فقام "هاوسمان" بإيجاد النمط التخطيطي الشعاعي للشوارع التي اطلق عليها "بوليفاردز" وهي شوارع عريضة جدا تنطلق بشكل شعاعي من ميدان, بحيث يشرف الميدان على هذه الشوارع جميعا. وهذا النمط التخطيطي يسهل ببساطة نصب المدافع في الميدان باتجاه الشوارع المستقيمة التي تنطلق منه "لقمع" الثورات مما لا تتيحه شوارع العصور الوسطى "المتعرجة". وببساطة عكست هذه العمارة والتخطيط "أقصى" نتيجة ممكنة بأقل عدد من المدافع بدلا من مطاردة الثوار في حرب شوارع "شطرنجية" أو عنكبوتية متعرجة. أما القمع الخفي وغير المباشر في توظيف المعمار لخدمة مصالح الدولة فقد عكسه تاريخيا إنشاء مدرسة ومسجد السلطان حسن بالقاهرة كنموذج للمبنى ذي الإيوانات الأربعة لتكريس وتدريس الفقه السني بمذاهبه الأربع, وبخاصة مع انتشار المذهب الشيعي المتنامي في شمال إفريقيا آنذاك مما شكل خطرا "مذهبيا" على مصالح دولة المماليك السنية. وفي عالم اليوم تتبدى مظاهر هذا القمع "غير المباشر" في سياسات التطوير والإستيطان والإسكان ومشاريع التنمية المختلفة التي تعطي المقربين والأعوان - ومن يخدم مصالح الحاكم وبدوائر متباعدة - حظوة في مشاريع معمارية وتخطيطية على حساب مصالح المجموع وحقوقهم, وبحيث تعكس رؤى استراتيجية "فئوية" بالمجتمع من خلال توزيعات مناطق التطوير الإستراتيجية في الأقاليم تبعا لنظرة سياسية. | |
|