يكمل في هذا العام المعمار جعفر علاوي 90 سنة من عمره ( ولد في 1915 ) ، وهي مناسبة مواتية للتذكير بمنجز هذا المعماري العراقي الرائد ، وابداء التحية الى تسعينيته ، متمنين له عمرا مديدا ً .
لم يعرف العراق الحديث ، معمارا عراقيا مهنيا ومؤهلا اكاديميا الا بعد مرور ما ينيف عن خمس عشر سنة ، منذ تأسيس الدولة الحديثة سنة ( 1921 ) ، لكن البلد قد عرف نتاج المعماريين غير العراقيين العاملين فيه ، وتلمس عن قرب تبعات النزعات التصميمية الجديدة التى اكتسحت البيئة المبنية ، وغيرت كثيرا وسريعا ً من مشاهدها المألوفة ، المشاهد البنائية ، لتى ظلت على امتداد حقب زمنية طويلة بعيدة عن التجديد والاثارة .
عندما غادر " جعفر علاوي " بلده ( بمعية صديقيه احدهما ابن محلته : محمد صالح مكيه ، والاخر مدحت علي مظلوم ) ، الى انكلترة ، مبعوثا للدراسة في مدرسة ليفربول المعمارية ، عام 1933 ، التى سبقهما فيها اثنان من العراقين هما : أحمد مختار ابراهيم وحازم نامق ؛ كان معمار المستقبل قد تعّرف في بغداد ، عن بعض النتاجات المعمارية التى بدأت واضحة ومميزّة في المشهد البنائي البغدادي ، التى قام بتصميمها المعماريون البريطانيون العاملون في مديرية المباني العمومية ، وكذلك لاحظها في اعمال البناة / الاسطوات ، الذين كانوا " يستنسخون " عمارتهم من تصاميم فيلات سكنية مبنية في مدن حوض البحر الابيض المتوسط ، ومنشورة ومطبوعة في بيانات مصورة " كاتالوغات " خاصة ، كانت " محاكاتها" واقتباس تفاصيلها امرين رائجين على نطاق واسع في الممارسة البنائية ابان تلك الفترة !
ويبـدو ان " صدمة " التغيير والمخالفة ، اللتين كانتا واضحتين ، في اشكال واساليب تشييد تلك النتاجات المعمارية الجديدة ، مقارنة بما كان شائعا ومألوفا في سياق البيئة المبنية المحيطة ، قد اثرت تأثيرا ايجابيا على خيارات طالب البعثة المجتهد ، في اصطفاءه العمارة كخيار لدراسته المستقبلية ، رغم انه لم يكن على دراية تامة وتفصيلية عن خصوصية مهنته الجديدة وآفاق عملها . لقد بات التحديث او الاصح التغيير الجذري المشوب بالحداثة ، ظاهرة ثقافية /اجتماعية ، لا يمكن تجاهل تبعاتها على جيل كامل من العراقيين الذين فتنوا في تلك " الحداثة " ، وطمحوا ان يكونوا " رجالاتها " ومبدعيها الحقيقيين ؛ وجعفر علاوي واحدا ً من اؤلئك " الحالمين " ، الذي قُدر له ان يكون لاحقا ً ، احد المعمارين الرواد في بلده التائق دوما للتجديد والتحديث .
ومع ان الخلفية الثقافية والتعليمية لجعفر علاوي لم تكن قادرة على تأهيله ومساعدته لنوعية الدراسة المعمارية المختارة : الغريبة وغير المعروفة ، كما اشرنا ، فان ذكاءه ومثابرته وحرصه على اتمام تعليمه بنجاح ؛ اسهمت كلها في تحقيق امانيه ؛ منهيا ً دراسته ضمن الفترة المحددة للبعثة . وحالما اتمّ تعليمه ، قفل راجعا مباشرة ( اكرر مباشرة ً) الى بلده عام 1939 ، متأبطا ً معه شهادة " بكالوريوس عمارة " من احدى اشهر المدارس المعمارية في العالم وقتذاك ! .
غداة وصوله الى العراق ، عُين في اوائل عام 1940 ، بقسم المباني التابع لوزارة المعارف ، الذي كان قد استحدث خصيصا ً بهدف تصميم ومتابعة وتنفيذ مباني المدارس بجميع انواعها ، التى كان البلد يعاني( ولايزال ؟ ) ، من نقص شديد في عددها ومبانيها . هل كانت ثمة محض صدفة ان يشغل المعمار ذلك الموقع الوظيفي ؟ ؛ ام ان حسه الديمقراطي والوطني العالي قاده في اتجاه توظيف مزايا مهنته الجديدة ، لجهة تأمين مبانِ ، هي المدارس ، التى عُد ّ وجودها ، وقتذاك ، من اكثر مفردات نسيج بيئة المدن المبنية أهمية ً وتأثيرا ً ؛ كونها فضاءات معنية بنشر المعارف والعلوم في مجتمع يرزح تحت وطأة التأخر ، ومانفك مثقفوه يصارعون " استراتيجيات " ذلك التأخر من تخلف وجهل ومرض ؟ !.
وايا ً يكن الامر فان تعيينه في ذلك الموقع ، هو الذي سيجعل منه لاحقا ، احد ابرز المختصين في عمارة الابنية المدرسية في عموم البلاد . وظل جعغر علاوي يعمل في وزارة المعارف لحين استقالته الطوعية سنة 1954 ، ليتفرغ كليا ً لعمله الاستشاري المعماري ؛ وبهذا فانه يعد اول عراقي يمنح موافقة تأسيس " مكتب استشاري " ، جاعلا من الممارسة المعمارية لاول مرة في تاريخ العراق الحديث ، مهنة حرة ، معترف بها من قبل الجميع ، كما انه بهذا الاجراء ، فتح الباب واسعا ، امام المعماريين العراقيين الاخرين لتنظيم انفسهم وتأسيس مكاتب خاصة بهم ، اسهمت في تجذير الممارسة المعمارية العراقية وتنظيم شؤونها .
في الستينات ، انصب نشاط جعفر علاوي ً في حقل المقاولات ، بالاضافة الى ممارسته للعمل المعماري ، الذي اقتصر بشكل عام على اعداد تصاميم دور سكنية في انحاء مختلفة من بغداد. وابان تلك الفترة ، ساهم مساهمة جادة ايضا ، في تقصي اساليب جديدة لحل معضلات الانشاء والمواد الانشائية المحلية ، التى لم يكن احدا ً من المعماريين يوليها اهتماما يذكر. وفي عام 1965 عين وزيرا للاشغال والاسكان ، وبهذه الصفة فانه يعتبر اول معمار ، يتقلد منصب وزير في تاريخ الدولة العراقية ! . واستمر بنفس الحال من النشاط الهندسي والمعماري لحين عقد الثمانينات ، عندها تفرغ لهواياته الكثيرة والمتنوعة ، مشاركا الوسط المعماري وغير المعماري بانشطته الثقافية التى كان ، ولا يزال ، يحرص على المساهمة بها .
وتظل فترة الاربعينات والخمسينات من اكثر الفترات نشاطا ً وانتاجا ً في حياة جعفر علاوي المهنية ، ففي ذينيك العقدين تبلورت رؤى المعمار بصورة واضحة ، وامسى واحدا من اهم معماري العراق . بالنسبة لي ، شخصيا ً ، كاحد متابعي المنجز المعماري العراقي ، اعتبر نتاجاته المعمارية في ذينيك العقدين هامة جدا ً ، وهذه الاهمية تنطوي على قيمة مزدوجة ، ذلك لان ظهور تلك النتاجات في المشهد المعماري العراقي كان إيذانا ً ببدء مرحلة ثانية من تاريخ العمارة العراقية الحديثة ، وثانيا ً ، لان نوعية ذلك النتاج المتعدد الوظائف ، قد عبر بوضوح عن مفاهيم وتصورات جعفر علاوي فيما يخص العمارة ومنجزها .
ثمة صعوبة يجابهها المتتبع ، في مهام مسح وتوثيق وتسجيل جميع التصاميم التى نفذها جعفر علاوي ، نظرا لعدم وجود مصادر منشورة كافية تتعاطى مع تفصيلات الشأن المعماري العراقي ، ذي الاهمية الفائقة في منجز المشهد المعماري العربي والاقليمي . وتزداد هذه المهمة تعقيدا ، بالنسبة لي ، في الوقت الحاضر ، بسبب موقعي الحالي بعيدا عن بلدي وعن طلابي ، الذين معهم حاولنا في الثمانينات وبداية التسعينات ، ان نوثق سجل نتاجات المعمارين العراقين ، وكشف واستقراء مقارباتهم التصميمية عبر حوارات مباشرة كانت تجرى معهم . واذكر قبل خروجي من وطني سنة 1996 ، باني اقنعت جعفر علاوي بتنظيم عرض لتصاميمه العديدة ، لتكون فاتحة لعرض اعمال معماريين عراقيين آخريين . وحينها تحمس للفكرة ، واتفقنا على اسلوب العرض ، ونفذنا مع بعض المعمارين والمعماريات نماذج من لوحات المشاريع المصممة ، التى وجدتها مقنعة ومناسبة . لكن سرعان ما فقد اهتمامه بالمشروع ، ولم يك بمقدوري ان اتابع تحقيق ذلك المقترح ، بسبب سفري المفاجئ ، وليس لي علم ، هل تم ايصال العمل الى نهاياته ، ونظم العرض ، ام لا ؟.
بيد ان ما نحن الان بصدده ، ليس تسجيلا وثائقيا ً لما انجزه المعمار التسعيني ، كما ان هذه المقالة لا تسعى وراء تحليل اكاديمي شامل لذلك المنتج الحصيف ، وانما ، وكما اشير في صدر المقال ، استثمار موضوعة المناسبة لاداء ايماءة احترام وتحية لواحد من رواد العمارة العراقية الحقيقيين ، والذي يتبدى نتاجه المعماري كاحدى الصفحات الناصعة في سجل ذلك المنجز ، الذي اكسب العراق ومنحه حضورا مميزا في الخطاب الثقافي العربي والاقليمي .
تكمن مأثرة جعفر علاوي التصميمية ، في اعتقادي ، في " اعماله المدرسية " ؛ لكن هذا الاعتقاد ، لا ينبغي له ان يقلل من اهمية اعماله الاخرى المميّزة . وقد تكون خصوصية المدارس ، كمبان ٍٍخدمية حاضنة لشرائح اجتماعية متنوعة ، تشي بخصوصيتها الى مفهوم ديمقراطية العمارة ، موجبا ًلترسيخ تلك المأثرة ، وتكريس اهميتها ، وقد ترجع هذه الاهمية ، الى تنوع مواقع تشييدها في ارجاء مختلفة من مدن وقصبات البلاد ،ولاسيما تواجد نماذجها خارج العاصمة ، فحازت بذلك على تعاطف جمّ من قبل مستخدميها الكثيرين ؛ او ان باعث تلك الاهمية التى اشير اليها ، يعود جانبا منه ، الى ولعي الشخصي بهذه الابنية التى تعكس بشكل ما طبيعة مهنتي التعليمية . وقد تكون جميع تلك الاسباب مجتمعة هي التى تعمل على استحضار عمارة جعفر علاوي ، في الاقل بالنسبة الي ّ ، من خلال انجازه " المدرسي " المرموق .
ثمة ثلاثة تصاميم مميّزة ، يمكن لها ان تختزل ، وبالتالي تعكس نجاحات المعمار في مجال الابنية المدرسية . وهذه التصاميم تعود الى " المدرسة الجعفرية " في سيد سلطان علي ( القاطرخانه ) ببغداد ( 1946 ) ، و " ثانوية الحي " بواسط ( 1947 ) ، و" ثانوية الحريري " بالاعظمية ببغداد ( 1953 ) .
اتسم التصميم الخاص بالمدرسة الجعفرية على نضوج تصميمي بينّ ، عكس من دون شك " المعارف " المعمارية المكتسبة من الممارسة المهنية في الوزارة ، واشتغاله الدائم على تصاميم واشراف نماذج عديدة لابنية مدارس شيدت في ارجاء مختلفة من البلاد ، الامر الذي عمق ادراكه لـ " تايبولوجية " تلك المباني والمعرفة الدقيقة لخصوصياتها التصميمية.
جاء تصميم المدرسة الجعفرية بكتلة متكونه من ثلاثة طوابق من الصفوف ، مطلة على حوش / فناء داخلي فسيح ، يفصلها عنه طارمة / ممر مكشوف من جهة الحوش ، يقطع امتدادها الافقي ، ايقاع منتظم تخلقه مساند عمودية ، على ارتفاع المبنى كله ، مصبوغه باللون الابيض ، بخلاف لون المدرسة الطاغي الاصفر الباهت ، الذي تشكله سطوح الجدران الطابوقية / الآجرية المصمتة. وهذا الممر العريض نسبيا ً يستخدم ، كمكان تجمع الطلبة اثناء الفرص بين الدروس ، كما انه يحمي فضاءات الصفوف من اشعة الشمس المباشرة . عالج المصمم الواجهة الخارجية للمدرسة، باستخدام فتحات نوافذ شريطية ، مستمرة على طول الواجهة ، في طوابقها الثلاثة ، منهيا اعلاها بشريط افقي خرساني بارز. وتؤمن تلك الفتحات الافقية ، اضاءة كافية ومتجانسة الى احياز الصفوف ، كما تمنح الواجهة قيمة تعبيرية جديدة ومميزة . وهذا التميّز هنا ، لا مندوحة عنه ، لجهة تأشير خصوصية وظيفة المدرسة ، كمبنى يختلف " تايبولوجيا " عن " ضجيج " تعداد وظائف المباني المجاورة ؛ كم انه ضروري ، ايضا ً ، لتأكيد فعل اضافات المعمار الجديدة الى البيئة المبنية المحيطة .
في ثانوية " الحي " بواسط ، يستعرض جعفر علاوي مقدرته التصميمية ، في تشكيل " فورم " جديد للمدرسة العراقية . ولئن حاول في عمارة هذه المدرسة ، ان يعكس وظيفة المبنى ، من خلال مفردات تكوينية ، امسى استخدامها جزءا لا يتجزأ من تكوينات ابنية المدارس ، فانه سعى لان يكون مدخل ثانوية الحي الرئيس عنصرا ً مهيمناً ذا حلول تصميمية استثنائية ، تعكس اهميته الوظيفية كنقطة عبور يومي للتلاميذ ومعلميهم في دخولهم وخروجهم من المدرسة . ولتأشير استثنائية الحل التصميمي ، فان المعمار لجأ ، اولا ، الى رفع كتلته ، مقارنة بارتفاع المبنى ذي الطابقين ، و قام في تفريغ كتلة المدخل ، التى اجراءها وفقا لمنظومة تناسبية حاذقة ، مقسما اياها الى قسمين : سطوح صلدة بدون فتحات ، وفراغ عميق يوقفه جدار منحسرالى الداخل محفور به " بوابات " المدرسة الثلاث في مستوى الطابق الارضي ، ونوافذ عليا ثلاث واقعة تماما على محور تلك الابواب . تعطي الاعمدة المزدوجة الطابوقية الرشيقة ، والموقعة امام الفضاء الذي تم خلقة في طارمة المدخل، ايحاءا بتكاملية عناصر كتلة الاخير .
" نحت " المعمار واجهة المدخل باسلوب تفريغ كتلوي ، يتسم على لا تماثلية فاضحة ، مما اكسب عناصرها احساسا فائضا بالحيوية ، الحيوية التى يزيدها تأثيراً تفعيل خاصية الظل والنور المعبرة والمترتبة عن ذلك التفريغ ؛ كل ذلك منح المدخل معالجة مثيرة ، اختلفت كثيرا عن الاساليب المحايدة والهادئة ، التى بدت فيها كتل المدرسة الاخرى . افضت حذاقة عمل المدرسة ومهارة التنفيذ فيها ، التنفيذ الحافل بتفاصيل انشائية دقيقة وبارعة ، الى جعل حدث تأسيس المدرسة والانتهاء من تشييدها حدثا ً معماريا بامتياز .
بالنسبة الى المدينة النائية ، الخالية من اي اثر معماري حديث ، كان افتتاح المدرسة وبدء انتظام دوام الطلاب فيها ، وظهورها بمظهر حديث ومفاجئ في المشهد البنائي المحلي مناسبة ثقافية واجتماعية هامة ، احتفل بها جميع سكان" الحيّ " ، والقى في مراسيم افتتحاحها ، في ربيع عام 1947 ، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدة ، اعدها خصصا لهذه المناسبة ، جاء فيها :
يابنتَ " رسطاليسَ " امك حـّرة - تلد البنينَ فرائـدا ً وخَرائـدا
...
سيقول عهدٌ مـُقبل عن حاضرٍ - نُشوى عليـه : لُعنت عهدا ً بائدا
ولسوف يبرأ ُ عاقب ٌعن اهله - ولسوف يتّهم البنون َ الـوالدا
قل للشبيبة حين يعصف ُ عاصف - الا يـظلوا كـالنسـيم رواكـدا
واذا اغـتلت ْ فينا مراجل ُ نقمةٍ - الا يـكونوا زمهـريرا ً باردا ...
وادى نجاح عمارة مدرسة الحي في هيئتها المميّزة وتكوينها المعبر ، الى ممارسة استنساخ تصاميمها وتعميمها على مناطق مختلفة من العراق ، ولعل مدرسة " مندلي " ، المشيدة في اوائل الخمسينات ، مثالا واضحا لتعميم تلك الممارسة .
تبقى عمارة " ثانوية الحريري " في بغداد ، من اجمل ما شهدته عمارة الابنية المدرسية في عموم البلاد . انها ، بحق ، " سيدة " المدارس العراقية ! ؛ ولا تضاهيها في تميّز لغتها المعمارية ، وعقلانية الحل التصميمي وحداثته ، سوى مدرستين شيدتا بعدها ، وهما " مدرسة الامريكان " بالمنصور ( 1956 ) المعمارية : الين جودت الايوبي ، والمدرسة الاخرى هي " ثانوية الزعيم عبد الكريم قاسم " في الصويرة ( 1961 ) ، المعمار : قحطان عوني .
تتبدى مفردات عمارة مدرسة الحريري، والتى سيق وان شاهدنا مثيلا لها في تكوينات مدرسية سابقة ، تتبدى بمستوى عال ٍ من النضوج والكمال . ، فعمارة المدرسة المميزّة ، هي نتيجة ممارسة تصميمية طويلة ، اجتهد المعمار كثيرا في وعي دروسها ، وان يتعلم جيدا من نجاحاتها .. واخفاقاتها الشئ الكثير . ولئن بدا " فورم " المدرسة " فورما ً " عاديا ً ومألوفا ، يعيد شكل هيئات التراكيب المولع بها المعمار ، من امتدادات افقية لكتلة الصفوف ، ومعارضتها بكتلة عمودية ، هي كتلة السلم ، التي يوقـعّ بجانبها عادة ، مدخل المدرسة ، زيادة على تاكيد موقعه ، وسهولة الاستدلال عليه ، فاننا نتلمس ، في الحريري ، استنطاق مثير مشوب بالجدة لتلك التركيبة المحببة الى قلب المعمار .
في ثانوية الحريري ، لا نرى اثرا ً لاستخدامات الطابوق / الآجر بشكله الظاهر ، وطرائق رصفه الحاذقة ، والذي تعودنا ان نتلمس تأثيراته الجمالية في ابنية مدرسية عديدة ؛ وعوضا ً عن ذلك ، يوظف المعمار " اللون " ، ويجعل من حضوره التكويني ، قيمة مكافئة لغياب تلك الممارسة البنائية الشائعة ، التى تطورت وابدلت في الحريري الى اسلوب " لبخ " الجدران .
يبقى اسلوب النوافذ الشريطية الممتدة افقيا ً ، اساس المعالجة الواجهية ، لكنها ، هنا ، في الحريري ، انطوت على تأكيدات اضافية ، ببروز خرساني يحدد اطار الفتحات ، ويؤكد موقعها ضمن " بياض " سطح الجدار الناصع . وبغية التأكيد على نظارة الهيئة العامة للمدرسة ، فان المعمار يضيف شاشتين ملونتين باللون البني الضارب الى الاحمر ، فوق امتداد كل شريط من اطاري فتحات النوافذ ، مكسبا ً واجهته ، بخلاف واجهات المباني المجاورة ، مناخا ً لونيا ً زاهيا ً .. ومطلوبا ً . وتتصادى هذه المعالجة مع تشكيلات واجهة " مبنى الهلال الاحمر " في العلوية ( 1949 ) ، ، والتى منها ، بدأ الاهتمام بعنصر" اللون " كقيمة تكوينية هامة في منجز العمارة العراقية الحديثة .
تمثل " عمارة مرجان " في الباب الشرقي ( 1953-54 ) ، احدى المحطات الاساسية في منجز جعفر علاوي المهني . ويعد ظهور المبنى استمراراً لممارسة معمارية جديدة ، بدأت تشق لها طريقا ً في حقل التصميم والانشاء ، واعنى بها المباني العالية ، المتعددة الطوابق ؛ والتى سبق لمدينة بغداد ان شهدت اول نماذج تلك الممارسة ، عندما تم ّ انجاز " عمارة الدامرجي " (1946- 1948 ) < المهندس : نيازي فتو > ، بطوابقها الستة ، والتى اعتبرت في حينها عالية جدا ً ، ونسج حول ارتفاعها " الاسطوري " ، موجة من الحكايات الخرافية التى لا تصدق ! .
تتجاوز ، في رأي ، اهمية " عمارة مرجان " حدود الحل المعماري الصرف ، ليضحى مرامي التصميم ، شاملا ً الجانب التخطيطي الحضري ايضا ً . فالمبنى بمقياسه الواضح والمعبر ّ ، واسلوب انحناء واجهته الخفيف ، التى تطل على موقعين مختلفين ( شارع وساحة ) ، " تضبط " بصرامة هيئات وتكوينات المباني المحيطة والمجاورة له ، المنفذة منها ، والتى قد تنفذ مستقبلا ً . ورغم التغيير الكبير والجذري الذي طرأ على نوعية الفضاء المجاور ، بدءا من اختفاء مزروعات " حديقة غازي " ، الى رحابة " ساحة الملكة عالية " الدوارة ، ومن بعدهما الى ساحة التحرير ، بشكليها " المستوي " و " المحفور " ؛ ظل ّ مبنى " عمارة مرجان " محتفظا ً باهميته الحضرية ، كونه احد الثوابت التخطيطة الذي يمنح حضوره نكهة خاصة لعموم التخطيط العمراني للمنطقة المتواجد فيها .
وفي رأي ، ايضا ، ان الاهمية الحضرية الفائقة " لعمارة مرجان " ، ما كان لها مثل هذا التأثير ، لولا نوعية الحلول المعمارية للمبنى ذاته ؛ اي مثلما اثر حضور المبنى على التخطيط ، اثر الاخير على صياغة نوعية العمارة ؛ بمعنى آخر ، ان معمار المبنى وعى جيدا طبيعة مسؤوليته التخطيطية والمعمارية معا ً . وهذا الامر قاده الى تنطيق الواجهة بمفردات تصميمية ، انطوت على حضور عال ٍ من الوضوح البصري ، واتسمت على بساطة بالادراك وسهولة في التذكرّ . فصياغة الواجهة تخضع الى تقسيمات غاية في البساطة ، اساسها منظومة " التوزيع الشطرنجي " للفراغ والسطح الصلد . وهذه المنظومة متأسسة من ان مقدارمقاسات فتحات النوافذ المحفورة عميقا في الجدار ، هي نفسها ابعاد السطوح الصلدة المحيطة بتلك الفتحات من جميع الجهات : من اليمين ومن الشمال ، من الاعلى ومن الاسفل ! . ونرى تشكيلات هذه المعالجة بادخال مفردات تصميمة جديدة وغير مسبوقة في الممارسة البنائية المحلية ، مما اكسبها حضورا مميزا في المشهد البنائي