موضوع: شخصيتنا في العمران وفي العمارة ومواجهتها للعولمة الأربعاء أبريل 22, 2009 2:55 pm
نشير في هذا السياق، وقبل الكلام عن العمران وعن العمارة في لبنان: - إلى أن العُمران هو البنيان، أو ما يعمَّر به المكان وتُحسَّن حالتُه من كَثرة الأهالي فيه. أما العُمران عند ابنِ خلدون فهو المجتمع، إذ يعرِّفه بكونه التساكُن في (مصرٍ) أي في مدينة، أو في (حِلّةٍ) أي في قرية، للأنُس واقتضاءِ الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعيش. - والعِمارة (بكسر العين) في اللغة العربية، هي (السكن، الإقامة، الأهل). فالفعل عَمَر المكان (بفتح الحروف الثلاثة) يعني سكنَ المكان، أو أقام فيه، وبذلك يكون المكان قد عمُر بمن فيه (بضم الميم)، والبيت معمورٌ، أي مسكونٌ، أو آهل. - والعِمارة في الموسوعات الغربية المعاصرة، هي فنُّ البناء، وفق قواعد جمالية وهندسية محدَّدة. إنها فنُّ جماعي ينِّظم المجالات المبنية، لتحتضن حياة الناس، ولتكون إطاراً لأعمالهم، ولهوهم، وترفيههم، ومجالاً، لا ينحصر في الصروح، بل يتناول الملجأَ والكوخ والأثاث، وكل ما يستعمله الناس في حياتهم اليومية. - والعمارة، هي متانةٌ، وفائدة، وجمالٌ، والقولُ (لڤيتروڤيوس)، في العقد الثاني قبل الميلاد. أو إنها في قول «حديث»، وليدة التقنيات والمهارات، والمواد المستعملة، أو إنها تلبي حاجات ثلاثاً متأصِّلة في الإنسان، هي الحاجة الانتفاعية، والحاجة الجمالية، والحاجة الرمزية، والقول (للجادرجي). أو إنها، في رؤية أخرى معاصرة، ناتج السيطرة المطلقة للتكنولوجيا المتقدِّمة، على طرق البناء. وعلى المعماريين، كي يحافظوا على موقعهم المهني، أن يسيطروا على طرق بناء التكنولوجيات، والقول (لبرنار تشومي). - مُعظم المفاهيم إذاً، ترى في عِمارة اليوم، ناتجاً اجتماعياً، تصنعه التكنولوجيا، والتقنيات، والمهارات، والمواد. إنها فعلُ مجتمع، تشهدُ على المجتمع الذي أنتجها في زمنه وفي مجالاته. إنها تشرحُ المجتمعَ وتفسِّره، في الوقت ذاته، الذي يفسِّر فيه المجتمعُ العِمارةَ ويشرحُها. - فالعُمران والعِمارة، ليسا فناً. والعمارة تحديداً، ليست فناً كاملاً أو فناً فقط، وإن قال البعض بأنها تقترب من الفن بكونها تختزن قيمة جمالية، أو إنها تثير فينا المشاعر كما يقول (لوكويوزبيه)، أو إنها تلامس الموسيقى بتجانسها، وبتناغمها، وبالإيقاع العذب فيها. العِمارة ليست فناً فقط. وهي، في مواجهة العولمة، جزءٌ من مواجهة الاجتماع اللبناني والعربي بكامله، لها. والمواجهة هذه، هي في مضمونها، مواجهةٌ قديمة، استمرت طيلة سنوات القرن العشرين، وإن اتسمت عولمةُ اليوم، ببعض الخصوصيات. 2ــ 1ــ بداية القرن العشرين - لقد فرض الانتدابُ الكولونيالي الفرنسي علينا، والانتداب للتذكير هو عالمي، فرض الانتداب علينا في بداية القرن العشرين بالعنف العسكري، تنظيماً مُدُنياً منقولاً، يفترض باسم الحداثة، هدم النسيج المُدُني التقليدي القائم، والبناء فوق الركام، واعتمد سياسة الأرض المحروقة. والأمثلةُ ظاهرة في بيروت، وفي أماكن أخرى في لبنان وفي الوطن العربي. لم يكن لنا رأي في ذلك، إذ أتوا بمهندسيهم، وبمنظمِّي المدن عندهم. جاء الأخوان (دانجيه) في الثلاثينات، وتبعهم (إيكوشار) بمهمة عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. كان للانتداب، الاحتلال، والسلطةُ، فغيَّب الاعتراضات الحاسمة على ممارساته في حقل تنظيم مدننا، إلا أن الدلالة على مقاومة النسيج التقليدي للتنظيم المُدني المسقط بالمظلّات، تظهر اليوم في معظم مدننا التاريخية. وأكتفي هنا بالإشارة، إلى أن مقاومة النسيج المُدني في بيروت، منعت ساحة النجمة من أن تكتمل. - أما في العِمارة فاستطعنا أن نواجه. ربما لأن المحتل الكولونيالي أظهر بعض الليونة في هذا المجال، أو لأن عِمارة الطرز الدولي لم تكن قد سيطرت على العالم بعد. فاستطاع بعض معماريينا، بالمقاومة وبالمهارة، أن يحافظوا على ملامح من شخصيتنا في عِمارتهم. فأنتج بعضهم عِمارةً حافظت على خصائص محلية، فعُرِفت باسم «العمارة الكولونيالية المستعربة»، إذ ظهرت فيها سمات، لهوية عربية اسلامية في العمارة. وأنتج بعضُهم الآخر عِمارةً مهجَّنة، عُرفت بـ«العمارة المشرقية». والتهجين فيها، هو تلقيح هيكل عمارة السكن، المصنوع من الخرسانة المسلحة الوافدة حديثاً، بعمارة البيت البورجوازي ذي اللغة المعماريَّة المركَّبة، (العثمانية، العربية، الإيطالية)، الذي انتشر في بيروت وفي بعض المناطق، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، وعُرف تجاوزاً بـ«البيت اللبناني». تراكمت المساكن طوابق تستلهم نموذج «البيت اللبناني» كما عرَّفناه، وتستلهم نموذج واجهته. وتكرّرت إيحاءات الأقواس الرخاميّة الثلاثة في وسط الواجهة، بصياغة جديدة، وبتعداد الطوابق فيها. فبدا التهجين ناجحاً. وبقيت شخصيتُنا واضحة، رغم الأعمدة المشغولة والتيجان المعقدة، ورغم الزخارف الكثيرة، وقد نُقِلت كلُّها عن أنماط معماريَّة غربية متعددة. كانت اللغة المعمارية هجينة، إلا أنها رفضت، النقل والخضوع، معاً. 2ــ 2ــ الزمن الإمبريالي...، وعقود ما بعد الاستقلال وفي الزمن الإمبريالي في القرن العشرين، أي في العقود التي تلت الاستقلال، عمَّت بيروت وسائر المدن، عمارة «الطرز الدولي». وكانت ممارسةُ معظم المعماريين اللبنانيين، نقلاً بدائياً ملوِّثاً. أما ممارسة البعض منهم، فكانت اقتباسات متفاوتةَ النجاح، في إنتاج عِمارة ملائمة لواقعنا الجغرافي، والثقافي، والاجتماعي. وإذا غابت شخصيَّتُنا في العمارة، عن أعمال معظم المعماريين الذين نقلوا ببلادة عمارة «الطرز الدولي»، فإن نسبة حضورها في أعمال الآخرين، قد تفاوتت بتفاوت نسبة نجاحهم في الاقتباس. لن أتناول أعمال النقل البدائية كما وصفتها. أما المعماريون الذين اقتبسوا، ونجحوا بتفاوت في إنتاج عمارة ملائمة، فقد تعددت مصادر اقتباسهم. - ويأتي المعمار أنطون تابت في مقدَّمة الذين اقتبسوا بنجاح، وأنتجوا عمارةً أليفة أحببناها، وشعرنا بها وقد تكاملت مع المكان، فاحتضنت روحه. لقد تتلمذ أنطون تابت على المعمار الفرنسي الفذ (أوغست بيريه)، فأحسن استعمال الهيكل الإنشائي الخرساني الظاهر في الواجهات، والمتتابع بإيقاع ينظِّم المجال المبني. كما أحسن استعمال الحجر الخرساني، يوحي تكراره بين الأعمدة، بقياسات المبنى. كما أحسن أيضاً استعمال الأحجار الخرسانية المفرَّغة، (كلوسترا) في الشرفات، وفي الجدران، فأعطى بذلك إيحاءات لبنانية مشرقية عربية واضحة. اقتبس أنطون تابت في بعض أعماله بإحساس ظاهر، وبثقافة مشرقية واضحة. فأعطى، عبر الاقتباس من الحداثة الغربية، عمارةً توحي بشخصية محلية، هي جزء من ثقافته الوطنية العربية، المواجِهة. ومن الاقتباسات الناجحة، تلك التي استظلت (الباوهاوس) بتعاليمه عن الأحجام المتناغمة، والأشكال الهندسية الصارمة، واللاتماثل الضروري والمتوازن، الذي يحكم مجمل الكتابة المعماريَّة. إنها قراءةٌ للعِمارة من زاوية «التجريد الهندسي» في الرسم، كما ظهر في أعمال «موندريان». وثمة اقتباسات مُميَّزة في هذا الاتجاه، في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين. - ومن أبرز الذين ساروا في هذا الطريق، المعماران شارل شاير وواثق أديب، والمعمار جورج ريس. عمل هؤلاء المعماريون تحت سقف الحداثة، بفهم عميق لمعاييرها، فأنتجوا عمارة، بدت فيها بخفر شديد، بعض ملامح الشخصية المحليَّة، عبر ملاءمتها المزدوجة: ــــــ للظروف المناخية العامة، (الشرفات الناتئة المظلَّلة، وكاسرات الشمس، والأحجار الخرسانية المفرَّغة «مشربيّات»). ــــــ وللتزاوج الناجح نسبياً، بين الحداثة المقتبسة، والأساليب التقليدية في التنفيذ. - ومن أبرز الذين أحسنوا الاقتباس من عمارة الحداثة، مع مراعاة الظروف المناخية وطرق التنفيذ التقليدية، المهندس جوزيف فيليب كرم. ربما ساعده على ذلك، اقتباسه من العمارة المتأقلمة مع محيطها، والآتية من بعيد، مع أعمال أوسكار نيميير، وخوسي لويس سرت. - وتبقى محاولات إبراز الشخصية المحليَّة في العمارة، في ظل الاقتباس من عمارة الحداثة، عبر محاولة جدية لاحتضان روح المكان، (بمناخه، وبنماذج بيوته، وبتقاليد ناسه)، تبقى هذه المحاولات أكثر وضوحاً، في بعض أعمال المعماريَّين عاصم سلام، وجاك ليجيه بلير، الأخيرة. 2ــ 3ــ قنوات التأثير، وسمات الاتجاهات الاقتباسية، وميزاتها كانت قنوات التأثير في أعمال معماريينا، إذاً متعددة. إلّا أن الاتجاهات الاقتباسية جاءت، بمعظمها: - انتقائية، ساعد على ذلك، التكوين الأكاديمي المتعدِّد للمعماريين اللبنانيين، الذي يلامس الفوضى*، وبيئتنا الثقافية المتنوعة، التي يريد لها البعض، أن تكون متعدِّدةً، لا تنصهر في ثقافة وطنيَّة عربية جامعة. - وتجريبية، دون رابط نظري، ودون ممارسة مهنية، منهجية، واضحة. - وفردية، انحصرت غالباً في عمل معمار فرد، ولم تخلق جماعة فكرية، تنتج تياراً نظرياً متماسكاً يَفعلُ، في العِمارة، وفي الثقافة. لقد أسهم هاجسُ المكان، عند بعض معماريينا البارزين، في صُنع العِمارة، وفي دفعها نحو نوع من التكامل الخجول، مع محيطها العمراني. إلا أن المكان، عند هؤلاء، بقي محصوراً في البيئة الجغرافية، وكأنها بيئة غير آهلة. فأهملوا البيئة الإنسانية، في طريقة عيشها، وفي علاقتها بالأرض، وبالآخر. أهملوها في مكوناتها الروحية والانتمائية. فجاءت معظم أعمالهم: - هامشية، بقيت خارج الثقافة الجامعة، لم تلامس مشاعر الناس، ولم تصل إلى أعماق وجدانهم، فتسهم بالتالي في صنع تحولات هادئة في النسيج المُدني، تُكمل المشهد العمراني في الزمن، دون انقطاع فجّ عنيف. بل أسهمت رغم نجاحها النسبي، في اقتلاع المحيط العمراني الموروث بسرعة مذهلة، لتحلَّ مكانه، عمارةُ الطرزِ الدولي الملوِّثة. - جاءت معظم أعمال معماريينا، في أغلب اتجاهاتها الاقتباسية، دون أيّ قيمة رمزية، غريبة، مغرِّبة.
أبو أصيل الشباعي مشرف قسم القضايا والمشاكل والحلول
موضوع: رد: شخصيتنا في العمران وفي العمارة ومواجهتها للعولمة الخميس أبريل 23, 2009 12:05 pm
العمران يحدد شخصيه وطباع المجتمع مثله كمثل الاخلاق الحميده